العنوان: صدق الانتماء
الكاتب: عبدالعزيز بن عثمان الفالح
في ساحة الدومو بمدينة ميلان الإيطالية كان أحد المشردين (( the homeless مفترشًا الأرضَ ومتوسدًا ذراعه ورافعًا علم إيطاليا فوق رأسه. وحينما هممتُ أن التقط له صوره نهرني واشتدّ غضبه وأخذ يزمجرُ بلغةٍ لا أفهمها، فإذا بأحد المارّة يترجم ما يقول حيثُ أبان أنّ غضبه لأخذِ صورةٍ له وهو على وضعٍ شعر من خلاله أنّه يُزدرى. رجوتُ المترجمَ أن ينقل له مشاعري نحوه، وما كان لي أن التقط له الصورة إلا تقديرًا واحترامًا لرفعه علم بلاده والمفاخرة به، وهذا ما دعاني لالتقاطِ صورة له مع العلم، مع علمي المسبق أن التقاطَ صورٍ لمثلِ حالته لا ينبغي، وفيه تعدٍّ على خصوصيته. فقال المشرد ( the homeless)لمَ تعجب؟! هذه بلادي أرضُ آبائي وأجدادي، هذه البقعة التي أفترشها هي ملكي، هذا الهواء الذي أتنفسه برئتي هو هواء بلادي إيطاليا. كم من أناس يتمنون أن يصلوا إلى هذه الأرض، يموتون في عرضِ البحر لكي يصلوا إلى هنا. أنتَ سائح لا تستطيع أن تُقيمَ هنا أكثرَ مما يسمحَ لك به. كم من أناس لا يملكون هذا المكان الذي أفترشه، إيطاليا كلها ملكي، هي كما تحتضنني أحتضنها. ولا يعني أنني فقيرٌ معدم لا أملك سكنًا ولا أملك حتى قوتَ يومي وليلتي أني لا أملك الشعور الوطني والانتماء إلى الوطن وعشق ترابه والافتخار برمزه-علمه- فأنت تستكثرُ علي حتى حبَّ بلادي واحتضان علمها! كان بيده كتاب يقرأه، فسقط من يده لشدة حماسه وقوة بيانه. تعجب المترجم منه كما تعجبت، تحلّق عددٌ من المارة للاستماع إلى محاضرته، وكأنه أعدها منذ زمن. بدأت النقود تتساقطُ عليه من كل جانب إعجابًا منهم بوطنيته وثقافته، وإيمانه بقيمة ما هو عليه.كثيرةٌ هي الكتبُ والرواياتُ والمقالاتُ والأشعارُ والقصائدُ التي تتحدثُ عن الانتماءِ للوطن، وآخر ما قرأت كتاب (الوطن في ضمير الشرفاء) لمؤلفه د. بدر بن علي العبدالقادر الذي تناولَ فيه حب الأنبياء والرسل والأولياء والشعراء والمهاجرين وحتى الحيوانات التي تعشق أوطانها وتتيهُ حبًا وولاءً لها، إلا أنّ ما رأيتهُ من ذلك المشرد في ساحة الدومو كلن التطبيقَ العملي لما هوَ مدونٌ في تلك الكتب والأشعار. هذا الرجل أحب بلدهُ ترابًا وهواءً، ونحنُ نُتيمُ ببلادنا حبًا وعشقًا ومعتقدًا؛ فحسب بلادنا أن دستورها القرآن ودينها الإسلام، وعلمها لا يُنكّسُ أبدًا لحمله كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله). تحتها سيفٌ مسلول، وشعار دولتنا سيفانِ متقاطعان ونخلةٌ وسطَ فراغهما الأعلى، فالسيفان يرمزان إلى القوة والمنعة والتضحية، والنخلة رمزٌ للحيوية والنماء والرخاء، فبلادنا مولدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومهبط وحيه وقبلة المسلمين، نحوها تشرئبُ الأعناق خمسَ مرات في اليوم والليلة، تهوي إليها الأفئدة، يُحَجُ إلى بيتها، يكتملُ بها الركنُ الخامس من أركان الإسلام، ملكها خادمٌ للحرمين الشريفين. فحبُ المملكةِ العربية السعودية واجبٌ عقدي ووطني، واللهُ سبحانه وتعالى أنزل حبُ مكة والمدينة في نفوس البشر قاطبة، فلهما حقُ الولاء، والحبُ والانتماء، فأمنية كل مسلم من على وجه الأرض أن تلامس قدماه الأرضَ الطاهرةَ المباركةَ؛ أرض المملكة العربية السعودية. ولمَ لا! وهي مهبط الوحي، ومهوى الأنفس، وقد أعدت المملكة وهيأت سُبل الوصول إليها بيسرٍ وسهولة، فرؤية 2030 تُحقق بإذن الله أمنية 30 مليون حاج وزائر، ويقيني أن هذا رقمٌ يحقق آمال كثيرٍ من المسلمين في أقطار الأرض، ولقد صادقت المملكةُ العربيةُ السعودية على العديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان لإيمانها بأهمية تلكَ الاتفاقيات وفقَ دستورها المُنبثق من القرآن والسنة والذي يكفلُ للمواطنِ والمقيم، والحاجِ والمعتمرِ والزائر حقوقهُ، كما أن هيئة حقوق الإنسان وفقَ رؤيتها ورسالتها المتمثلتين في تحقيق المبادرة والريادة وحماية حقوق الإنسان وتعزيزها في جميع المجالات وفقًا للمعايير الدولية، ونشر الوعي بها، والإسهام في ضمان تطبيقها في ضوء أحكام الشريعة الإسلاميةتُرسخُ الحُبَ والولاءَ والانتماءَ للوطنِ لما توفرهُ السلطات الثلاث القضائية والتنفيذية والتنظيمية للمواطن والمقيم على حدٍ سواء.
حقوق الإنسان مُلزِمةٌ ديانةً واعتقادًا، فتأديتها جزءٌ لا يتجزأ من دين المسلم وعبادته، لذا تؤكدُ المملكة العربية السعودية أن أنظمتها الداخلية والخارجية لا سلطانَ عليها غير سلطان الشريعة الإسلامية، وتؤكدُ على احترام القوانين الدولية مع تبيان تحفظها على كل ما يخالف الشريعة الإسلامية، وهذا بحدِ ذاته يوجب الحب والولاء والانتماء إلى المملكة العربية السعودية أرضًا وولاة أمر حيثُ هم من أقاموا شريعة الله في هذه الأرض المقدسة التي باركَ اللهُ فيها ومن عليها.
إن مشهدُ ذلك المشرد ((the homeless الذي يفترشُ الأرض ويتلحفُ السماء وهو محتضنٌ علمَ بلاده مفاخراً به حاضرٌ في الذهن أتذكره في كلِ لحظةٍ أنظرُ فيها إلى مجدِ وحضارة ورقي بلادي ورفرفةِ علمها الخفاق. ذلك الموقف درسٌ بليغ لمن ألقى السمعَ والبصرَ والفؤاد، راثيًا لحال من لا يحملُ ذلك الشعور.
*عضو مجلس هيئة حقوق الإنسان